حياة هذا الزمن
كان المطر ينهمر بغزارة ليس لها مثيل، كأن غضب الطبيعة كان ينصب على تلك البقعة المنخفضة من الأرض فعصفت بها وجردت أشجارها من أوراقها بقسوة ووحشية تاركة وراءها أغصانا ترتجف لمهب الريح وتحاول الصمود ,تحاول الثبات...
بين الأشجار المرتجفة ثلاثة أشباح تشق طريقها بإصرار، رجلان مسلحان و معهما شاب يمشي على مهل غير عابئ بعصف الطبيعة أو بأسلحة الرجلين أو بالمصير الذي ينتظره، لم يكن يهتم ولم يعتريه أي خوف فقد كان فؤاده فارغا. دفعه الرجل المسلح الذي كان على يمينه بخشونة، كان يشتمه بفظاعة ويزدريه بكلام يقطر سما، كان يدعى بالسجان لوظيفته الأولى. آما الشاب فلم يحفل بما يقوله السجان، لم يكن يحفل بأي شيء من حوله. أما المسلح الثاني فكان صامتا ولم ينطق بحرف، كانوا يسيرون على نحو أربع ساعات حتى الآن.
لازال المطر ينهمر وكاد يمزق الأرض من شدته، وتشابكت الأغصان بقوة قبل أن تتكسر وتتفتت، حدق الشاب بغصن عليه برعم جميل لم يستطع أن يقاوم أكثر فاقتلع من مكانه بعنف. شعر بالبرد ليس بسبب المطر بل بسبب الألم، ذكره البرعم بزوجته الحنين، شعر بحسرة رهيبة، لكم يتمنى أن يسمع صوتها العذب ويرى ابتسامتها الملائكية التي تلازمها، لكم تمنى أن يكلمها الآن، لكم اشتاق لها. شعر بحزن وشجن من أعماق قلبه تذكر دمار قريته، وبيته، وزوجته الجريحة، كانت تلتقط أنفاسها الأخيرة بين يديه وهي تحاول أن تبتسم له. توقف الشاب لبرهة ليلتقط أنفاسه الشجية، دفعه السجان بخشونة، وتابعا سير هما المتعثر بالوحل وزجر العاصفة...
وأخيرا وصلا لفندق صغير، وقرر الحارسان أن يقضيا الليلة هنا لاستحالة متابعة السير في العاصفة الهوجاء. حجز السجان غرفة في الطابق الثالث، كانت غرفة صغيرة وأضاءتها قليلة.
قال السجان للشاب وهو يدفعه لزاوية:
"أنت تجلس بهذه الزاوية وإن تحركت، تكون قد جنيت على نفسك"
ثم طلب من الحارس الثاني أن يراقبه، ليذهب هو ليرتاح قليلا ويأكل شيئا يشد رمقه، ووافق الحارس الثاني بإيماءة من رأسه. فتركهما السجان وخرج من الغرفة ونزل لمقهى الفندق ليحتسي فنجان من القهوة.
استلقى الشاب على ظهره وحاول أن يدفئ يديه قليلا، لازال صوت العاصفة يأتي وهي تعصف بالأغصان العارية، أزعجه الصوت كثيرا، كأنه صوت أنين من ألم لا يطاق ولا يحتمل كأن الأغصان المتشابكة تريد أن ترجع كما كانت سابقا معا،وضع ساعده على عينيه عسى أن ينام قليلا.
كان الحارس الثاني يحدق بالنافذة ويراقب بوجه متحجر، وفجأة حدق بالشاب وتكلم لأول مرة:
" ألا تريد أن تهرب؟"
أجاب الشاب بلا وعي "لا"، وفتح عينيه ونظر إلى الحارس نظرة حذرة.
"اسمعني جيدا أيها الشاب" أكمل الحارس الثاني وهو يمسح حبة عرق من جبينه، وانتظر قليلا ثم قال بصوت خافت:" اليوم صباحا عندما كنت أفتش بيوت القرية وجدت مسدسا كان مخفيا في كيس أرز. أنت تعرف جيدا لمن يكون. لكني لم أكتب تقريرا بشأنه، لأني آثرت أن أسلمه بنفسي للملازم. أتعلم إن مصيرك هو ألإعدام, ولا يهمهم أبدا كونك شاب يافع، فأنهم حتى ألان اعدموا مثلك بعدد شعر رأسك. ألا تريد أن تنجو بحياتك، ألا تريد أن أعيد لك ما وجدته في كيس الرز؟"
نفذ صبر الشاب وصرخ به " لماذا لا تتركني وشأني؟"، لم يعد يهمه أن يفر أو أن يعدم، فأنه فقد أعز شخص بحياته فما معنى الحياة من دونها.
تعالت زمجرة العاصفة القاسية ولا تزال تمطر كأنه وابل سهام.
حدق الحارس الثاني به، وقال مهدئا:" لا ترفع صوتك هكذا، لا تخاف، صدقني سأبيعك المسدس، وأظن أن لديك المال الكافي لهذا، فقد كنت تملك بعض المال عندما قبضنا عليك، هل أخذ مالك السجان أم لازال بحوزتك؟"
هدأ الشاب قليلا، تذكر ابنته الصغيرة ذات الثلاث سنوات، إنها عند عمتها الآن، لقد وعدته أن ابنته ستكون بخير، شعر بالأمل يضيء قلبه، لو هرب قد يتمكن أن يرى طفلته مرة أخرى، قد يهربان من هذا المكان ويأمن لها حياة رغيدة ويعوضها عن كل شيء، هذا الأمل أعطاه قوة و أحيا قلبه، وقف على قدميه واخرج ورقة نقدية من جيب بنطلونه المهترئ وقال للحارس "هاك، خذها، أظنها تكفي لمسدس وزيادة"
وهنا تلفت الحارس وبلع ريقه و قال:"ليس بهذه البساطة قف ووجهك إلى الحائط، أعطني المال وأنا سأضع المسدس في جيبك في نفس الوقت، لكن انتبه، لو قمت بأي ألاعيب فلن أتردد بإطلاق الرصاص على ظهرك!"
ادار الشاب وجهه للحائط، وهكذا وضع الحارس المسدس في جيبه،وبيده الثانية اخذ المال. بعد لحظات نزل الحارس إلى المقهى.
"يا له من مطر عنيد" كان صوت السجان وهو يدخل الغرفة، كان الشاب متكوما على نفسه، ينتظر اللحظة المناسبة.
كان سلاح السجان متدليا بإهمال من يديه،تكلم السجان بتهكم : " الست أنت نفسك من تلك القرية، أنت وأصدقائك توهمون الناس بأنكم تدافعون عنهم، وتحمون حقوقهم، أنت لست سوى من حثالة المجتمع، بالمناسبة اخبرني عن الفتاة التي كنت معها بالليل قبل أن نقضي عليه،هل كانت جيدة؟ "
وهنا انتصب الشاب واقفا وبوجهه نظرة غضب هائج مدمر وهو يقول: "هذه الفتاة كانت زوجتي أيها الحقير" وهاجم السجان بعنف رهيب وافلت سلاحه،واختطف مسدسه وهوى به على رأس السجان بكل قسوة الذي خر من الصدمة وسرعة الشاب وقوته،وقع على الأرض بشدة وهو ينزف من رأسه و نظر إلى الشاب وقد أصفر وجهه من الخوف.
تمتم الشاب بألم وحسرة وهو يلوح بمسدسه: " لا تخف، لن أقتلك بمسدسي، بل بيدي سأمزقك، يا أحقر من لقيت، لقد قتلت زوجتي أيها السافل، لماذا؟ ما ذنبها هي؟ لم تكن سوى زهرة، وماذا عن قريتي والناس الذين احترقوا بهذه البشاعة، ما ذنبهم؟ ألانك لم تجد ما تسرقه منهم ،أم انك لم ترى كيف يخطف الموت أعز الناس؟"
لا زال الحارس على الأرض، يحدق بالمسدس المشهر أمامه بخوف رهيب، كان يرجف من الخوف، وشحب وجهه، نظر إليه الشاب بحقارة وهو يقول:" مثلك لا يستحق الموت بل يستحق عذاب الويل، اليس انت من كنت تستمتع بتعذيب الناس بالسجن, فقد كان نصفهم ابرياء وأظنك تعرف هذا جيدا، كنت تستغل كونهم ليس لديهم شخص يحميهم، وكل هذا سينتهي الآن فنهايتك ستكون مثلهم بالضبط، سأعذبك حتى الموت, لتذوق بعض ما فعلت" ورفع سلاحه على السجان المرتعب.
توسل السجان مرتجفا:" أرجوك، أرجوك لا تقتلني"
نظر اليه الشاب بنظرة جامدة وقال ببرود:" هذا من اجل زوجتي", وصوب المسدس نحوه.
ارتعدت اوصال السجان، وهو يحدق بفوهه المسدس، وصرخ:
" أنا كذبت لست أنا من قتلت زوجتك، كنا نطلق النار بعشوائية،صدقني! وكانت زوجتك في المكان والزمان الخطأ! لقد اصيبناها خطا! ،لم أكن أملك زمام الأمور،لا أرجوك لا! لا تقتلني،اتوسل اليك!
لدي خمسة أطفال، أرحمني أرجوك!
أرحمني بشبابك،أرحم اطفالي, أتوسل إليك لا تقتلني"
توقف الشاب وكأن توسلات السجان أثرت عليه، كأنها ماء بارد صب فوق نار غضبه الملتهبة، تذكر إن لدى السجان خمسة أطفال، لو كان هكذا حقا لكان يفكر بمصير طفلته الصغيرة، لكنه ليس مثلهم ، انه ليس قاتلا، وحتى لو أراد أن يقتل فأنه لا يستطيع أن يقتل من يتوسل منه الحياة، لا يستطيع أن يسلبها هكذا، لأنه إنسان. حدق الشاب بالسجان بوجه خالي من المشاعر وأشاح ببصره عنه. اقترب من الشرفة، لاحظ أن المطر توقف ولكن الغيوم الداكنة لازالت تغطي السماء، فتح باب الشرفة ولمعت عيناه، سيرى أبنته مجددا، وابتسم قليلا.
فجأة سمع صوت رصاصة دوى لها المكان، و أصيب الشاب بكتفه الأيمن وقبل أن يلتفت أصيبت رصاصة أخرى في صدره، فتهاوى الشاب من أعلى الشرفة ووقع جثة هامدة.
من أطلق الرصاص هو الحارس الثاني، فقد قام بعمله وحصد ما تبقى من أمل في تلك الليلة العاصفة...
نقلت بترجمة وتصرف من Mountain Berry